كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



(ثَانِيهِمَا) أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ يَدُلُّ عَلَى جَهْلِ قَائِلِهِ بِالدِّينِ أَوْ جُحُودِهِ، فَأن الدين يُرْشِدُ إِلَى تَحْدِيدِ الْآجَالِ وَكَوْنِهَا بِإِذْنِ اللهِ كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي تَفْسِيرِ قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا} [3: 145] فَارْجِعْ إِلَيْهِ.
وَالْمَشْهُورُ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ الْمُتَدَاوَلَةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ فِي الْآيَاتِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: يَقُولُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ وَقَعَ مِنْ بَعْضِ الْكُفَّارِ فِعْلًا، فَنَهَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقُولُوا مِثْلَهُ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّ هَذَا قَوْلٌ لَا يَصْدُرُ إِلَّا عَنْ كَافِرٍ فَلَا يَلِيقُ مِثْلُهُ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ سُئِلَ فِي هَذَا الْمَقَامِ عَنْ مَسْأَلَةِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ فَقَالَ: إِنَّنِي أُجِيبُ السَّائِلَ بِمِثْلِ مَا أَجَبْتُ بِهِ مَنْ سَأَلَنِي عَنْ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، إِذْ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْعَقِيدَةَ هِيَ السَّبَبُ فِي تَأَخُّرِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ، فَإِنَّهُمْ يُنْكِرُونَ الْأَسْبَابَ وَلَا يَحْفِلُونَ بِهَا، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ مَا يُنْتَقَدُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ ذَلِكَ لَا يَرْجِعُ مِنْهُ شَيْءٌ إِلَى الإسلام الْخَالِصِ، فَمَا قَرَّرَهُ فَهُوَ الْحَقُّ الْوَاقِعُ فِي نَفْسِهِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُلْحِدٍ إِنْكَارُهُ. وَبَيَّنَ ذَلِكَ بِذِكْرِ أَنَّ الْقَضَاءَ عِبَارَةٌ عَنْ تَعَلُّقِ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ بِالشَّيْءِ، وَالْعِلْمُ: انْكِشَافٌ لَا يُفِيدُ الْإِلْزَامَ، وَالْقَدَرُ: وُقُوعُ الشَّيْءِ عَلَى حَسَبِ الْعِلْمِ، وَالْعِلْمُ لَا يَكُونُ إِلَّا مُطَابِقًا لِلْوَاقِعِ وَإِلَّا كَانَ جَهْلًا، أَوِ الْوَاقِعُ غَيْرُ وَاقِعٍ وَهُوَ مُحَالٌ، وَهُنَا أَمْرَانِ كُلٌّ مِنْهُمَا ثَابِتٌ فِي نَفْسِهِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ اللهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَثَانِيهِمَا أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الَّذِي يُسَمَّى الْإِنْسَانَ يَعْمَلُ أَعْمَالَهُ بِقَصْدٍ وَاخْتِيَارٍ وَلَكِنَّهُ غَيْرُ تَامِّ الْقُدْرَةِ وَلَا الْإِرَادَةِ وَلَا الْعِلْمِ، فَقَدْ يَعْزِمُ عَلَى الْعَمَلِ ثُمَّ تَنْفَسِخُ عَزِيمَتُهُ لِتَغَيُّرِ عِلْمِهِ بِالْمَصْلَحَةِ أَوْ لِعَجْزِهِ عَنْ تَنْفِيذِ مَا عَزَمَ عَلَيْهِ مَعَ بَقَاءِ عِلْمِهِ بأنه هُوَ الْمُوَافِقُ لِلْمَصْلَحَةِ وَذَلِكَ لِمَرَضٍ يُلِمُّ بِهِ أَوْ مَانِعٍ يَحُولُ دُونَ مَا أَرَادَهُ، وَهَذَا يَقَعُ مَعَ النَّاسِ كُلَّ يَوْمٍ وَلَكِنَّهُمْ قَدْ يَغْفُلُونَ عَنْهُ وَيَغْتَرُّونَ بِمَا يَنْفُذُ مِنْ عَزَائِمِهِمْ، فَيَظُنُّونَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ. قَالَ: جَاءَ مِصْرَ رَجُلَانِ مِنَ الْأُورُبِّيِّينَ الَّذِينَ جَرَتْ عَادَةُ أمثالهِمْ بِأَنْ يُحَدِّدُوا مُدَّةَ سَفَرِهِمْ وَمَقَامِهِمْ فِي كُلِّ بَلَدٍ يَزُورُونَهُ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي السَّفَرِ، وَكَانَ مِمَّا كَتَبَاهُ فِي بَرْنَامَجِ سَفَرِهِمَا أَنَّهُمَا يُقِيمَانِ بِمِصْرَ سِتَّةَ أَيَّامٍ، فَمَرِضَ أَحَدُهُمَا فَاضْطُرَّ إِلَى أَنْ يَمُدَّ فِي مُدَّةِ السَّفَرِ بِغَيْرِ حِسَابٍ. وَهَكَذَا شَأْنُ الْإِنْسَانِ يَعْزِمُ فَيَعْمَلُ، أَوْ يَعْجِزُ أَوْ يَمُوتُ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنَ الْعَمَلِ، فَاخْتِيَارُهُ فِي أَعْمَالِهِ وَقُدْرَتُهُ عَلَيْهَا وَمَعْرِفَتُهُ الْأَسْبَابَ وَقِيَامُهُ بِهَا كُلُّ ذَلِكَ لَهُ حُدُودٌ لَا يَتَجَاوَزُهَا، فَهُوَ لَا يُحِيطُ عِلْمًا بِأَسْبَابِ الْمَوْتِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى اجْتِنَابِ كُلِّ مَا يَعْمَلُ مِنْ أَسْبَابِهِ، وَمَا كُلُّ سَبَبٍ يَتَعَرَّضُ لَهُ يَقَعُ، فَجَمِيعُ الَّذِينَ يَصْطَلُونَ بِنَارِ الْحَرْبِ يُعَرِّضُونَ أَنْفُسَهُمْ لِلْقَتْلِ، وَقَدْ يَسْلَمُ أَكْثَرُهُمْ وَيُقْتَلُ أَقَلُّهُمْ. أَقُولُ: وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الشَّيْءَ مَتَى وَقَعَ يُعْلَمُ بَعْدَ وُقُوعِهِ أنه لَمْ يَكُنْ مِنْهُ بُدٌّ. وَثَانِيهِمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا كَانَ يُؤْمِنُ بِأَنَّ لِلَّهِ تعالى عِنَايَةً بِهِ وَقَدْ يُلْهِمُهُ- إِذَا هُوَ تَوَجَّهَ إِلَيْهِ- عِلْمَ مَا يَجْهَلُ مِنْ أَسْبَابِ سَعَادَتِهِ وَيُوَفِّقُهُ إِلَى مَا يَعْجِزُ عَنْهُ مِنَ الْأَسْبَابِ بِمَحْضِ حَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ، فَإِنَّهُ بِهَذَا الإيمان يكون مَعَ أَخْذِهِ بِالْأَسْبَابِ أَنْشَطَ فِي الْعَمَلِ عِنْدَ عَجْزِهِ عَنْهَا بَعْدَ الْيَأْسِ وَالْكَسَلِ.
لِيَجْعَلَ اللهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ أَيْ لَا تَكُونُوا يَا مَعْشَرَ الْمُؤْمِنِينَ مِثْلَ أُولَئِكَ الْكَافِرِينَ فِي اعْتِقَادِهِمْ، وَلَا تَقُولُوا مِثْلَ قَوْلِهِمُ النَّاشِئِ عَنْ ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ مِنْكُمْ سَبَبًا لِتَحَسُّرِهِمْ وَغَمِّهِمْ بِحَسَبِ سُنَّةِ اللهِ تعالى؛ فَإِنَّهُمْ إِذَا رَأَوْكُمْ أَشِدَّاءَ أَقْوِيَاءَ لَا يُضْعِفُكُمْ فَقْدُ مَنْ فُقِدَ مِنْكُمْ، وَلَا يَقْعُدُ بِكُمْ عَنِ الْقِتَالِ خَوْفٌ أَنْ يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَ أُولَئِكَ الَّذِينَ قُتِلُوا فَإِنَّهُمْ يَحْزَنُونَ وَيَتَحَسَّرُونَ، هَذَا وَجْهٌ فِي التَّعْلِيلِ مُتَعَلِّقٌ بِالنَّهْيِ نَفْسِهِ، وَمُلَخَّصُ الْمَعْنَى عَلَيْهِ: لَا تَكُونُوا مِثْلَهُمْ؛ لِأَجْلِ أَنْ يَتَحَسَّرُوا بِامْتِيَازِكُمْ عَلَيْهِمْ إِذْ يَضْعُفُونَ بِفَقْدِ مَنْ يُفْقَدُ مِنْهُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَضْعُفُونَ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِاعْتِبَارِ الِاعْتِقَادِ الْفَاسِدِ الَّذِي نَشَأَ عَنْهُ، وَالْمَعْنَى: لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا فِيمَنْ مَاتُوا أَوْ قُتِلُوا مَا قَالُوا؛ لِيَكُونَ أَثَرُ ذَلِكَ الْقَوْلِ مَعَ الِاعْتِقَادِ وَعَاقِبَتُهُ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ عَلَى مَنْ فُقِدَ مِنْ إِخْوَانِهِمْ، وَيَزِيدُهُمْ ضَعْفًا وَيَرِثُهُمْ نَدَمًا عَلَى تَمْكِينِهِمْ إِيَّاهُمْ مِنَ التَّعَرُّضِ لِمَا ظَنُّوهُ سَبَبًا ضَرُورِيًّا لِلْمَوْتِ، فَإِنَّكُمْ إِذَا كُنْتُمْ مِثْلَهُمْ فِي ذَلِكَ يُصِيبُكُمْ مِنَ الْحَسْرَةِ مِثْلَ مَا يُصِيبُهُمْ، وَتَضْعُفُونَ عَنِ الْقِتَالِ كَمَا يَضْعُفُونَ، فَلَا يَكُونُ لَكُمُ امْتِيَازٌ عَلَيْهِمْ بِالْبَصِيرَةِ النَّيِّرَةِ الَّتِي يَرَى صَاحِبُهَا أَنَّ الَّذِي وَقَعَ هُوَ مَا لابد مِنْهُ فَلَا يَتَحَسَّرُ عَلَيْهِ، وَلَا بالإيمان الَّذِي لَا يَزِيدُ ذَلِكَ صَاحِبَهُ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا.
وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ أَيْ وَالْحَقِيقَةُ أَنَّ اللهَ تعالى يُحْيِي مَنْ يَشَاءُ بِمُقْتَضَى سُنَنِهِ فِي بَقَاءِ أَسْبَابِ الْحَيَاةِ وَإِنْ طَوَى بِالْأَسْفَارِ بِسَاطَ كُلِّ بَرٍّ، وَنَشَرَ شِرَاعَ كُلِّ بَحْرٍ، وَخَاضَ مَعَامِعَ الْحُرُوبِ، وَصَارَعَ الْأَهْوَالَ وَالْخُطُوبَ. وَيُمِيتُ مَنْ يَشَاءُ بِمُقْتَضَى سُنَنِهِ فِي أَسْبَابِ الْمَوْتِ وَإِنِ اعْتَصَمَ فِي الْحُصُونِ الْمُشَيَّدَةِ، وَحُرِسَ بِالْجُنُودِ الْمُجَنَّدَةِ، وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَا تُكِنُّونَ فِي أَنْفُسِكُمْ مِنَ الِاعْتِقَادِ، وَمَا يُؤَثِّرُ فِي قُلُوبِكُمْ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَحْوَالِ، فَاحْرِصُوا عَلَى أن يكون تَرْكُكُمْ لِأَقْوَالِ الْكُفَّارِ نَاشِئًا عَنْ طَهَارَةِ نُفُوسِكُمْ مِنْ وَسَاوِسِهِمْ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَيْ إِنَّ الْحَيَاةَ وَالْمَمَاتَ بِيَدِ اللهِ تعالى وَهُوَ مُمِدُّ الْمَوْجُودَاتِ كُلِّهَا بِمَا يَحْفَظُ وُجُودَهَا وَالْعَالَمِينَ بِحَيَاتِهِمْ وَمَوْتِهِمْ فَلَا يَلِيقُ بِالْعَاقِلِ أَنْ يَقُولَ لِمَنْ أَمَاتَهُ: لَوْ كَانَ فِي مَكَانِ كَذَا لَمَا مَاتَ بَلْ كَانَتْ حَيَاتُهُ أَطُولَ (قَالَ): وَهُنَاكَ عِلَّةٌ أُخْرَى مِنْ عِلَلِ النَّهْيِ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ الْقَوْلِ وَهِيَ مَا أَفَادَهُ قوله تعالى: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ حَظَّ الْحَيِّ مِنْ هَذِهِ الْحَيَاةِ هُوَ مَا يَجْمَعُهُ مِنَ الْمَالِ وَالْمَتَاعِ الَّذِي تَتَحَقَّقُ بِهِ شَهَوَاتُهُ وَحُظُوظُهُ، وَمَا يُلَاقِيهِ مَنْ يُقْتَلُ أَوْ يَمُوتُ فِي سَبِيلِ اللهِ مِنْ مَغْفِرَتِهِ تعالى وَرَحْمَتِهِ، فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ جَمِيعِ مَا يَتَمَتَّعُ بِهِ فِي هَذِهِ الدَّارِ الْفَانِيَةِ، وَالْمَوْتُ فِي سَبِيلِ اللهِ هُوَ الْمَوْتُ فِي أَيِّ عَمَلٍ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي يَعْمَلُهَا الْإِنْسَانُ لِلَّهِ، أَيْ سَبِيلِ الْبِرِّ وَالْخَيْرِ الَّتِي هَدَى اللهُ الْإِنْسَانَ إِلَيْهَا وَيَرْضَاهَا مِنْهُ. وَقَدْ يَمُوتُ الْإِنْسَانُ فِي أَثْنَاءِ الْحَرْبِ مِنَ التَّعَبِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي يَأْتِيهَا الْمُحَارِبُ فِي أَثْنَائِهَا، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنَ الْمَوْتِ فِي سَبِيلِ اللهِ- عَزَّ وَجَلَّ-.
أَقُولُ: وَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ هُنَا أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ؛ لِأَنَّ السِّيَاقَ فِي الْحَرْبِ، وَلِذَلِكَ قَدَّمَ ذِكْرَ الْقَتْلِ عَلَى الْمَوْتِ، فَإِنَّ الْقَتْلَ هُوَ الَّذِي يَقَعُ كَثِيرًا فِي الْحَرْبِ وَالْمَوْتُ يَكُونُ فِيهَا أَقَلَّ، فَذَكَرَهُ تَبَعًا بِخِلَافِ الْآيَةِ الْآتِيَةِ.
وَحَاصِلُ مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ رَبَّ الْعِزَّةِ يُخْبِرُنَا مُؤَكِّدًا خَبَرَهُ بِالْقَسَمِ بِأَنَّ مَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِهِ أَوْ يَمُوتُ فَإِنَّ مَا يَنْتَظِرُهُ مِنْ مَغْفِرَةٍ تَمْحُو مَا كَانَ مِنْ ذُنُوبِهِ وَسَيِّئَاتِهِ وَرَحْمَةٍ تَرْفَعُ دَرَجَاتِهِ خَيْرٌ لَهُ مِمَّا يَجْمَعُ الَّذِينَ يَحْرِصُونَ عَلَى الْحَيَاةِ لِيَتَمَتَّعُوا بِالشَّهَوَاتِ وَاللَّذَّاتِ، إِذْ لَا يَلِيقُ بِالْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يُؤْثِرُونَ مَغْفِرَةَ اللهِ وَرَحْمَتَهُ الدَّائِمَةَ عَلَى الْحُظُوظِ الْفَانِيَةِ أَنْ يَتَحَسَّرُوا عَلَى مَنْ يُقْتَلُ مِنْهُمْ أَوْ يَمُوتُ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَيَوَدُّوا لَوْ لَمْ يَكُونُوا خَرَجُوا مِنْ دُورِهِمْ إِلَى حَيْثُ لَقُوا حَتْفَهُمْ فَإِنَّ مَا يَلْقَوْنَهُ بَعْدَ هَذَا الْحَتْفِ خَيْرٌ مِمَّا كَانُوا فِيهِ قَبْلَهُ. وَبِهَذَا الَّذِي بَيَّنْتُهُ تَظْهَرُ نُكْتَةُ الْخِطَابِ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ وَالْغَيْبَةِ فِي آخِرِهَا، وَكَذَا تَنْكِيرُ مَغْفِرَةٍ وَرَحْمَةٍ. ثُمَّ قال تعالى: {وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ} قَالُوا: إِنَّ الْمَوْتَ وَالْقَتْلَ هُنَا أَعَمُّ مِمَّا فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ يَمُوتُ وَمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَهِيَ طَرِيقُ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ، أَوْ فِي سَبِيلِ الشَّيْطَانِ، وَهِيَ طَرِيقُ الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ، فَلابد أَنْ يُحْشَرَ إِلَى اللهِ تعالى دُونَ غَيْرِهِ فَهُوَ الَّذِي يَحْشُرُهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ فِي نَشْأَةٍ أُخْرَى، وَهُوَ الَّذِي يُحَاسِبُهُمْ وَيُجَازِيهِمْ، وَهَاهُنَا قَدْ قَدَّمَ ذِكْرَ الْمَوْتِ لِأَنَّهُ أَعَمُّ مِنَ الْقَتْلِ وَأَكْثَرُ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ. فِي مَعْنَى الْحَشْرِ إِلَى اللهِ تعالى: أنه لَيْسَ لِلَّهِ تعالى مَكَانٌ يَحْصُرُهُ فَيَحْشُرُ النَّاسَ وَيُسَاقُونَ إِلَيْهِ، وَلَكِنَّ الْإِنْسَانَ يَغْفُلُ فِي هَذِهِ الدَّارِ عَنِ اللهِ فَيَنْسَى هَيْبَتَهُ وَجَلَالَهُ، وَيَنْصَرِفُ عَنِ اسْتِشْعَارِ عَظَمَتِهِ وَسُلْطَانِهِ؛ لِاشْتِغَالِهِ بِدَفْعِ الْمَكَارِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَجَلْبِ اللَّذَّاتِ وَالرَّغَائِبِ لَهَا. وَأَمَّا ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي يُحْشَرُ لَهُ النَّاسُ فَلَا اشْتِغَالَ فِيهِ بِتَقْوِيمِ بِنْيَةٍ، وَلَا التَّمَتُّعِ بِلَذَّةٍ، وَلَا مُدَافَعَةِ عَدُوٍّ، وَلَا مُقَاوَمَةِ مَكْرُوهٍ، وَلَا بِتَرْبِيَةِ نَفْسٍ، وَلَا تَنْزِيهِ حِسٍّ، وَإِنَّمَا يَسْتَقْبِلُ فِيهِ كُلُّ أَحَدٍ مَا يُلَاقِيهِ مِنَ اللهِ تعالى جَزَاءً عَلَى عَمَلِهِ لَا يَشْغَلُهُ عَنْهُ شَيْءٌ، فَيَكُونُ بِذَلِكَ رَاجِعًا عَنْ كُلِّ شَيْءٍ كَانَ فِيهِ إِلَى اللهِ تعالى مَحْشُورًا مَعَ سَائِرِ النَّاسِ إِلَيْهِ لَا يَشْغَلُهُ عَنْهُ شَيْءٌ (قَالَ) وَإِذَا كَانَ مَصِيرُ كُلِّ مَنْ يَمُوتُ أَوْ يُقْتَلُ إِلَى اللهِ تعالى مَهْمَا كَانَ سَبَبُ مَوْتِهِ أَوْ قَتْلِهِ وَمَهْمَا طَالَتْ حَيَاتُهُ فَالِاشْتِغَالُ بِذِكْرِ سَبَبِ هَذَا الْمَصِيرِ وَمَبْدَئِهِ لَا يُفِيدُ، وَإِنَّمَا الَّذِي يُفِيدُ هُوَ الِاهْتِمَامُ بِذَلِكَ الْمُسْتَقْبَلِ وَالِاشْتِغَالُ بِالِاسْتِعْدَادِ لَهُ، وَذَلِكَ دَأْبُ الْعُقَلَاءِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}.
الْكَلَامُ الْتِفَاتٌ عَنْ خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى خِطَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمُعَامَلَتِهِمْ يَقُولُ لِنَبِيِّهِ: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مِثَالُهُ مَعَ زِيَادَةٍ وَأيضاحٍ: الْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي وَقْعَةٍ خَالَفَ النَّبِيَّ فِيهَا بَعْضُ أَصْحَابِهِ، فَكَانَ لِذَلِكَ مِنَ الْفَشَلِ وَظُهُورِ الْمُشْرِكِينَ مَا كَانَ حَتَّى أُصِيبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَعَ مَنْ أُصِيبَ، فَكَانَ مِنْ لِينِهِ فِي مُعَامَلَتِهِمْ وَمُخَاطَبَتِهِمْ وَمِنْ رَحْمَتِهِ بِهِمْ أَنْ صَبَرَ وَتَجَلَّدَ فَلَمْ يَتَشَدَّدْ فِي عَتْبٍ وَلَا تَوْبِيخٍ اهْتِدَاءً بِكِتَابِ اللهِ تعالى، فَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِ آيَاتٍ كَثِيرَةً فِي الْوَقْعَةِ بَيَّنَ فِيهَا مَا كَانَ مِنْ ضَعْفٍ فِي الْمُسْلِمِينَ وَعِصْيَانٍ وَتَقْصِيرٍ حَتَّى مَا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِالظُّنُونِ الْفِكْرِيَّةِ وَالْهُمُومِ النَّفْسِيَّةِ، وَلَكِنْ مَعَ الْعَتْبِ اللَّطِيفِ الْمَقْرُونِ بِذِكْرِ الْعَفْوِ وَالْوَعْدِ بِالنَّصْرِ وَإِعْلَاءِ الْكَلِمَةِ وَفَوَائِدِ الْمَصَائِبِ، وَقَدْ كَانَ خُلُقُهُ صلى الله عليه وسلم الْقُرْآنَ كَمَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ- رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-.
أَقُولُ: كَأَنَّهُ يَقُولُ: أنه كَانَ مِنْ أَصْحَابِكَ يَا مُحَمَّدُ مَا كَانَ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ وَهُوَ مِمَّا يُؤَاخَذُونَ عَلَيْهِ فَلِنْتَ لَهُمْ وَعَامَلْتَهُمْ بِالْحُسْنَى، وَإِنَّمَا لِنْتَ لَهُمْ بِسَبَبِ رَحْمَةٍ عَظِيمَةٍ أَنْزَلَهَا اللهُ عَلَى قَلْبِكَ وَخَصَّكَ بِهَا فَعَمَّتِ النَّاسَ فَوَائِدُهَا، وَجَعَلَ الْقُرْآنَ مُمِدًّا لَهَا بِمَا هَدَاكَ إِلَيْهِ مِنَ الْآدَابِ الْعَالِيَةِ وَالْحِكَمِ السَّامِيَةِ الَّتِي هَوَّنَتْ عَلَيْكَ الْمَصَائِبَ وَعَلَّمَتْكَ مَنَافِعَهَا وَحِكَمَهَا وَحُسْنَ عَوَاقِبِهَا لِلْمُعْتَبِرِ بِهَا وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ لِأَنَّ الْفَظَاظَةَ هِيَ الشَّرَاسَةُ وَالْخُشُونَةُ فِي الْمُعَاشَرَةِ، وَهِيَ الْقَسْوَةُ وَالْغِلْظَةُ، وَهُمَا مِنَ الْأَخْلَاقِ الْمُنَفِّرَةِ لِلنَّاسِ لَا يَصْبِرُونَ عَلَى مُعَاشَرَةِ صَاحِبِهِمَا وَإِنْ كَثُرَتْ فَضَائِلُهُ، وَرُجِيَتْ فَوَاضِلُهُ، بَلْ يَتَفَرَّقُونَ وَيَذْهَبُونَ مِنْ حَوْلِهِ وَيَتْرُكُونَهُ وَشَأْنَهُ لَا يُبَالُونَ مَا يَفُوتُهُمْ مِنْ مَنَافِعِ الْإِقْبَالِ عَلَيْهِ، وَالتَّحَلُّقِ حَوَالَيْهِ، وَإِذًا لَفَاتَهُمْ هِدَايَتُكَ، وَلَمْ يَبْلُغْ قُلُوبَهُمْ دَعْوَتُكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ فَلَا تُؤَاخِذْهُمْ عَلَى مَا فَرَّطُوا وَاسْأَلِ اللهَ تعالى أَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا يُؤَاخِذَهُمْ أيضا، فَبِذَلِكَ تَكُونُ مُحَافِظًا عَلَى تِلْكَ الرَّحْمَةِ الَّتِي خَصَّكَ اللهُ بِهَا، وَمُدَاوِمًا لِتِلْكَ السِّيرَةِ الْحَسَنَةِ، الَّتِي هَدَاكَ اللهُ إِلَيْهَا وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر الْعَامِّ الَّذِي هُوَ سِيَاسَةُ الْأُمَّةِ فِي الْحَرْبِ وَالسِّلْمِ وَالْخَوْفِ وَالْأَمْنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَصَالِحِهِمُ الدُّنْيَوِيَّةِ، أَيْ دُمْ عَلَى الْمُشَاوَرَةِ وَوَاظِبْ عَلَيْهَا، كَمَا فَعَلْتَ قَبْلَ الْحَرْبِ فِي هَذِهِ الْوَقْعَةِ (غَزْوَةِ أُحُدٍ) وَإِنْ أَخْطَئُوا الرَّأْيَ فِيهَا فَإِنَّ الْخَيْرَ كُلَّ الْخَيْرِ فِي تَرْبِيَتِهِمْ عَلَى الْعَمَلِ بِالْمُشَاوَرَةِ دُونَ الْعَمَلِ بِرَأْيِ الرَّئِيسِ وَإِنْ كَانَ صَوَابًا، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ النَّفْعِ لَهُمْ فِي مُسْتَقْبَلِ حُكُومَتِهِمْ إِنْ أَقَامُوا هَذَا الرُّكْنَ الْعَظِيمَ (الْمُشَاوَرَةَ) فَإِنَّ الْجُمْهُورَ أَبْعَدُ عَنِ الْخَطَأِ مِنَ الْفَرْدِ فِي الْأَكْثَرِ، وَالْخَطَرُ عَلَى الْأُمَّةِ فِي تَفْوِيضِ أَمْرِهَا إِلَى الرَّجُلِ الْوَاحِدِ أَشَدُّ وَأَكْبَرُ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَيْسَ مِنَ السَّهْلِ أَنْ يُشَاوِرَ الْإِنْسَانُ وَلَا أَنْ يُشِيرَ، وَإِذَا كَانَ الْمُسْتَشَارُونَ كِثَارًا كَثُرَ النِّزَاعُ وَتَشَعَّبَ الرَّأْيُ، وَلِهَذِهِ الصُّعُوبَةِ وَالْوُعُورَةِ أَمَرَ اللهُ تعالى نَبِيَّهُ أَنْ يُقَرِّرَ سُنَّةَ الْمُشَاوَرَةِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ بِالْعَمَلِ، فَكَانَ صلى الله عليه وسلم يَسْتَشِيرُ أَصْحَابَهُ بِغَايَةِ اللُّطْفِ وَيُصْغِي إِلَى كُلِّ قَوْلٍ وَيَرْجِعُ عَنْ رَأْيِهِ إِلَى رَأْيِهِمْ، وَلَيْسَ عِنْدِي عَنِ الْأُسْتَاذِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ غَيْرُ هَذَا.
وَأَقُولُ: الأمر الْمُعَرَّفُ هُنَا هُوَ أَمْرُ الْمُسْلِمِينَ الْمُضَافُ إِلَيْهِمْ فِي الْقَاعِدَةِ الأولى الَّتِي وُضِعَتْ لِلْحُكُومَةِ الإسلاميَّةِ فِي سُورَةِ الشُّورَى الْمَكِّيَّةِ، وَهِيَ قوله تعالى فِي بَيَانِ مَا يَجِبُ أن يكون عَلَيْهِ أَهْلُ هَذَا الدِّينِ {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [42: 38] فَالْمُرَادُ بِالأمر أَمْرُ الْأُمَّةِ الدُّنْيَوِيُّ الَّذِي يَقُومُ بِهِ الْحُكَّامُ عَادَةً؛ لَا أَمْرُ الدِّينِ الْمَحْضِ الَّذِي مَدَارُهُ عَلَى الْوَحْيِ دُونَ الرَّأْيِ، إِذْ لَوْ كَانَتِ الْمَسَائِلُ الدِّينِيَّةُ كَالْعَقَائِدِ وَالْعِبَادَاتِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مِمَّا يُقَرَّرُ بِالْمُشَاوَرَةِ لَكَأن الدين مِنْ وَضْعِ الْبَشَرِ، وَإِنَّمَا هُوَ وَضْعٌ إِلَهِيٌّ لَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهِ رَأْيٌ لَا فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا بَعْدَهُ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الصَّحَابَةَ- عَلَيْهِمُ الرِّضْوَانُ- كَانُوا لَا يَعْرِضُونَ رَأْيَهُمْ مَعَ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي مَسَائِلِ الدُّنْيَا إِلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بأنه قَالَهُ عَنْ رَأْيٍ لَا عَنْ وَحْيٍ كَمَا فَعَلُوا يَوْمَ بَدْرٍ، إِذْ جَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَدْنَى مَاءٍ مِنْ بَدْرٍ فَنَزَلَ عِنْدَهُ فَقَالَ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَمُوحِ: يَا رَسُولَ اللهِ: أَرَأَيْتَ هَذَا الْمَنْزِلَ أَمَنْزِلًا أَنْزَلَكَهُ اللهُ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَقَدَّمَهُ وَلَا نَتَأَخَّرَ عَنْهُ، أَمْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ؟ فَقَالَ: «بَلْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ»، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ لَيْسَ هَذَا بِمَنْزِلٍ، فَانْهَضْ بِالنَّاسِ حَتَّى نَأْتِيَ أَدْنَى مَاءٍ مِنَ الْقَوْمِ فَنَنْزِلَهُ ثُمَّ نُغَوِّرَ مَا وَرَاءَهُ إِلَخْ. مَا قَالَ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَقَدْ أَشَرْتَ بِالرَّأْيِ وَعَمِلَ بِرَأْيِهِ».
أَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هَذَا الرُّكْنَ (الشُّورَى) فِي زَمَنِهِ بِحَسَبِ مُقْتَضَى الْحَالِ مِنْ حَيْثُ قِلَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَاجْتِمَاعِهِمْ مَعَهُ فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ فِي زَمَنِ وُجُوبِ الْهِجْرَةِ الَّتِي انْتَهَتْ بِفَتْحِ مَكَّةَ، فَكَانَ يَسْتَشِيرُ السَّوَادَ الْأَعْظَمَ مِنْهُمْ وَهُمُ الَّذِينَ يَكُونُونَ مَعَهُ، وَيَخُصُّ أَهْلَ الرَّأْيِ وَالْمَكَانَةِ مِنَ الرَّاسِخِينَ بِالْأُمُورِ الَّتِي يَضُرُّ إِفْشَاؤُهَا، فَاسْتَشَارَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ لَمَّا عَلِمَ بِخُرُوجِ قُرَيْشٍ مِنْ مَكَّةَ لِلْحَرْبِ، فَلَمْ يُبْرِمِ الأمر حَتَّى صَرَّحَ الْمُهَاجِرُونَ ثُمَّ الْأَنْصَارُ بِالْمُوَافَقَةِ.
وَاسْتَشَارَهُمْ جَمِيعًا يَوْمَ أُحُدٍ أيضا كَمَا تَقَدَّمَ. وَهَكَذَا كَانَ يَسْتَشِيرُهُمْ فِي كُلِّ أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الْأُمَّةِ إِلَّا مَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ بِبَيَانِهِ فَيُنَفِّذُهُ حَتْمًا، وَلَمَّا كَثُرَ الْمُسْلِمُونَ وَامْتَدَّ حُكْمُ الإسلام بَعْدَ الْفَتْحِ إِلَى الْأَمَاكِنِ الْبَعِيدَةِ عَنِ الْمَدِينَةِ. وَكَانَ فِي كُلِّ قَبِيلَةٍ أَوْ قَرْيَةٍ مِنْ أُولَئِكَ الْمُسْلِمِينَ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ الْمَكَانَةِ وَالرَّأْيِ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: أنه قَدِ احْتِيجَ إِلَى وَضْعِ قَاعِدَةٍ أَوْ نِظَامٍ لِلشُّورَى يُبَيَّنُ فِيهِ طُرُقَ اشْتِرَاكِ أُولَئِكَ الْبُعَدَاءِ عَنْ مَكَانِ السُّلْطَةِ الْعُلْيَا فِيهَا، وَلَكِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَضَعْ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ أَوِ النِّظَامَ لِحِكَمٍ وَأَسْبَابٍ:
مِنْهَا: أَنَّ هَذَا الأمر يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْأُمَّةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، وَكَانَتْ تِلْكَ الْمَدَّةُ الْقَلِيلَةُ الَّتِي عَاشَهَا صلى الله عليه وسلم بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ مَبْدَأَ دُخُولِ النَّاسِ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا. وَكَانَ صلى الله عليه وسلم يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأمر سَيَنْمُو وَيَزِيدُ وَأَنَّ اللهَ سَيَفْتَحُ لِأُمَّتِهِ الْمَمَالِكَ، وَيُخْضِعُ لَهَا الْأُمَمَ وَقَدْ بَشَّرَهَا بِذَلِكَ. فَكُلُّ هَذَا كَانَ مَانِعًا مِنْ وَضْعِ قَاعِدَةٍ لِلشُّورَى تَصْلُحُ لِلْأُمَّةِ الإسلاميَّةِ فِي عَامِ الْفَتْحِ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَفِي الْعَصْرِ الَّذِي يَتْلُو عَصْرَهُ إِذْ تُفْتَحُ الْمَمَالِكُ الْوَاسِعَةُ وَتَدْخُلُ الشُّعُوبُ الَّتِي سَبَقَتْ لَهَا الْمَدَنِيَّةُ فِي الإسلام أَوْ فِي سُلْطَانِ الإسلام، إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ الْقَوَاعِدُ الْمُوَافِقَةُ لِذَلِكَ الزَّمَنِ صَالِحَةً لِكُلِّ زَمَنٍ وَالْمُنْطَبِقَةُ عَلَى حَالِ الْعَرَبِ فِي سَذَاجَتِهِمْ مُنْطَبِقَةً عَلَى حَالِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ وَعَلَى حَالِ غَيْرِهِمْ، فَكَانَ الْأَحْكَمَ أَنْ يَتْرُكَ صلى الله عليه وسلم وَضْعَ قَوَاعِدِ الشُّورَى لِلْأُمَّةِ تَضَعُ مِنْهَا فِي كُلِّ حَالٍ مَا يَلِيقُ بِهَا بِالشُّورَى.
وَمِنْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَوْ وَضَعَ قَوَاعِدَ مُؤَقَّتَةً لِلشُّورَى بِحَسَبِ حَاجَةِ ذَلِكَ الزَّمَنِ لَاتَّخَذَهَا الْمُسْلِمُونَ دِينًا وَحَاوَلُوا الْعَمَلَ بِهَا فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَمَا هِيَ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ، وَلِذَلِكَ قَالَ الصَّحَابَةُ فِي اخْتِيَارِ أَبِي بَكْرٍ حَاكِمًا: رَضِيَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِدِينِنَا أَفَلَا نَرْضَاهُ لِدُنْيَانَا؟ فَإِنْ قِيلَ: كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَذْكُرَ فِيهَا أنه يَجُوزُ لِلْأُمَّةِ أَنْ تَتَصَرَّفَ فِيهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ بِالنَّسْخِ وَالتَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ نَقُولُ: إِنَّ النَّاسَ قَدِ اتَّخَذُوا كَلَامَهُ صلى الله عليه وسلم فِي كَثِيرٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا دِينًا مَعَ قوله: «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَقوله: «مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ فَإِلَيَّ، وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاكُمْ فَأَنْتُمْ أَعْلَمُ بِهِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ.
وَإِذَا تَأَمَّلَ الْمُنْصِفُ الْمَسْأَلَةَ حَقَّ التَّأَمُّلِ، وَكَانَ مِمَّنْ يَعْرِفُ حَقِيقَةَ شُعُورِ طَبَقَاتِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ يَتَجَلَّى لَهُ أنه يَصْعُبُ عَلَى أَكْثَرِ النَّاسِ أَنْ يَرْضَوْا بِتَغْيِيرِ شَيْءٍ وَضَعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلْأُمَّةِ وَإِنْ أَجَازَ لَهَا تَغْيِيرَهُ، بَلْ يَقُولُونَ: أنه أَجَازَ ذَلِكَ تَوَاضُعًا مِنْهُ وَتَهْذِيبًا لَنَا حَتَّى لَا يَصْعُبَ عَلَيْنَا الرُّجُوعُ عَنْ آرَائِنَا، وَرَأْيُهُ هُوَ الرَّأْيُ الْأَعْلَى فِي كُلِّ حَالٍ.